( أرض مدين ) في نيوم
إرث تاريخي طرز بمغائر ومدائن شعيب وجسد الموقع حضارة الآنباط في محافظة البدع ومن أبرز وأهم المواقع الأثرية والتاريخية في منطقة تبوك

عبدالإله الفارس / عين المملكة
تمثل محافظة البدع الواقعة غرب مدينة تبوك وفي منطقة نيوم هي أحد أبرز المواقع الأثرية في المملكة، ومن ابرز وأهم معالمها مغاير شعيب ، وهي عبارة عن مقابر منحوتة في الصخر، وتتزين بزخارف مشابهة لواجهات المغاير النبطية الموجودة في مدائن صالح بمحافظة العلا، والبتراء في الاردن ويربط بينهما طريق رئيس بين تبوك و مركز شرما بمسافة (200 كلم) كانت هي الفاصلة بين حضارة الحاضر، وماض مجيد قبل 100 عام من الميلاد، حيث أرض مدين في البدع وهي الوارد ذكرها في القرآن الكريم: «وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» (هود 84).
ويعتبر الموقع وجهة سياحية وأثرية في تبوك تضم آثاراً وسدوداً وزخارف لم تُغيرها عوامل التعرية على مدى ألفي عام
مغاير ومدائن شعيب
كشفت الدراسات أن مغاير شُعيب كانت مستوطنة زراعية من عام 100 ق.م، حتى عام 550م، حين أجبرت 20 سنة من الجفاف سكانها من الأنباط على الانتقال شمالاً للهلال الخصيب، حيث ذكرها «بطليموس» باسم «عينونة القبور»، وتعد البلدة دليلاً على الوجود المستمر عدة أمم في عصور مختلفة.
وهي عبارة عن واحة قديمة بعث الله فيها نبيه شُعيب إلى قومه مدين، مبيناً أن البدع تقع في أرض مدين، وأن اسم الأيكة لا يزال يطلق على واد النمير رافد وادي عفال ومن أبرز المعالم الأثرية فيها الواجهات النبطية ب المغاير حيث كتبت عليها كثيرٌ من النقوش اللحيانية والنبطية وهي مدينة قديمة عامرة بها عيون كثيرة، وأنهار مطردة عذبة، وأجنة وبساتين ونخيل.
..حيث انها ملحمة تاريخية تجسدت وبرزت من خلال المنحوتات التي عندما تقف عندها تدرك حقاً أنك أمام ملحمة تاريخية عظيمة يمتزج فيها الخيال بالحقيقة، إذ تتداعى صوراً عديدة للتاريخ، تمزجها حضارة إنسانية لا تزال شواهدها قائمة من آثار، وقبور، ونقوش، وسدود، وكتابات وزخارف، وفنون متنوعة، تُصّور بكل تفرد تلك الحضارة الحافلة بالنبوغ في المناحي العمرانية والثقافية، فالدخول إلى مغاير شعيب يكون عبر أبواب منحوتة في الصخر، تفنّن أصحابها آنذاك بالرسم والحفر والنقش.وإن كانت المغاير تعد كهوفاً، إلاّ أنها كانت منحوتة داخل الجبال بطريقة هندسية رائعة، تَنمُّ عن حضارة قديمة، وداخل هذه البيوت غرف مفصلة تفصيلاً دقيقاً، كما شيدوا لها مقابر داخلها مُنفصلة عن البيوت، ورُسمت بعض النقوش والزخارف بطريقة هندسية دقيقة وعريقة، حيث تعاملوا مع الحجارة الصماء، وطوعوها كيفما شاءوا فكانت سكناً لأحيائهم وقبوراً لأمواتهم.
(وكانت مقصداً للرحالة والمستشرقين )
حيث شهدت زيارة عدد من الرحالة أبرزهم «ادوارد روبل» وهو أول أوروبي زارها، وأشار إلى ذكرها في كتاب نشر عام 1829م، وكذلك الفلندي «جورج اوغست فالين» الملقب ب «عبدالولي» وهو أكثر المستشرقين الاسكندنافيين شهرةً، كما زارها المستكشف البريطاني «ريتشارد فرانسيس بيرتون» وذلك سنة 1853م، وأجرى زيارة أخرى في سنة 1877م، وذكر أن المدافن يطلق عليها اسم مغائر، وقسمها إلى أربع مجموعات، أولها الواقعة في الجهة الشمالية، ومدافن الملوك، ثم المجموعة الجنوبية، والكهوف المدعمة، وأطلق عليها «مدينة الأموات» أما ما يقابلها فسماها «مدينة الأحياء». وزار «الويس موسل» المكتشف والمستشرق النمساوي الشهير «مغاير شُعيب»، ووقف عليها، ووصفها وصفاً دقيقاً ونشر عشر مخططات للمقابر، إضافةً إلى عدد من الرحالة منهم «بوركهارت»، و»تشارلز دواتي»، و»اوغست والن»، و»تشارلز هوبر»، و»يوليس اويتنج»، و»اليدي آن بلنت»، والفرنسيان «جوسين» و»سفنياك»، والألماني «موترز»، و»رتشارد بورتن»، و»ألوس موزل»، وغيرهم.
كما زار مغاير شعيب الرحالة المسشرق الانجليزي «هاري سنت جون فيلبي»، الذي عُرف فيما بعد ب «الحاج عبدالله فيلبي» زيارتين، أحدهما عام 1953م، بعد 30 سنة من زيارة الرحالة «موسل»، ويُعد من أدق وأفضل من وصفها وصفاً دقيقاً، حيث قال:»إضافة إلى عظمتها فإن المرء يجد لها طابعاً مميزاً، وهي الصخور التي حفر فيها معظم هذه الآثار وأحسن ما يمكن أن توصف به قولنا إنها صخور رملية متآكلة تحوي على مواد جيرية صلدة وثابتة اللون، وإنه ليبدو مذهلاً أن هذه الصخور على الرغم من تقلب عوامل الجو، كالرياح، والمطر، والشمس، عليها آلاف السنين، فقد قاومتها وجعلتها عاجزة عن محو فن المعمار النبطي المتعلق بالحياة محواً تاماً». وعلّق على هذه المقابر التي غالباً ما يطلق عليها البعض خطئاً اسم «مغاير شعيب» نسبةً للنبي شُعيب، ورأى أنها أضرحة، وصنفها إلى أربع مجموعات، جعل الضريح الكبير منها يحتل المركز الأول، فيما يضم هذا الضريح عدة فتحات، أما المجموعة الثانية تقع في ناحية أخرى من هذه المرتفعات، وتشتمل على سبعة أضرحة مختلفة الارتفاعات، ولها واجهات في حالة متفاوتة من الخراب، وإلى جانب السقوف ومداخلها مجموعات من أكوام الأنقاض والأتربة، وعدد من القبور عددها ما بين واحد وتسعة في كل ضريح.
أما بالنسبة للمجموعة الثالثة فيذكر فيلبي أنها أحسن من سابقتها، وتتميز أضرحتها بوجود نتواءات لزخارف مدرجة في ثلاثة منها، وأثر ظاهر لتاج عمود كورنثي الطراز في الضريح الرابع، وتاج عمود من طراز نقوش البتراء في الضريح الخامس، إضافة إلى عدد من القبور والنقوش الجنائزية على الحائط الداخلي لكل منها، أما المجموعة الرابعة والأخيرة فتتألف من ثلاثة أضرحة، أحدها قد فقدت واجهته الخارجية وتبلغ مساحته 11 قدماً مربعاً، وهذه المجموعة تضم خمس مدافن في كل جدار بعمق ستة أقدام، وعرض خمسة أقدام، وارتفاع خمسة أقدام، في حين يظهر على باب الضريح الأساسي ضمن هذه المجموعة نقوش متداخلة على شكل أقواس، فيما يبلغ عمق هذا الضريح من الداخل 15 قدماً، وعرض 12 قدماً، وعلو سقفه عن أرضه يبلغ سبعة أقدام، كما توجد به نافذة تقود إلى غرفة صغيرة عرضها تسعة أقدام، بارتفاع 5.5 قدم، وتحتوي على عدد من القبور المصفوفة على طول الجدار الخلفي للضريح، ما عدا زوجين منها عند المدخل يصل طول الواحد منها إلى سبعة أقدام، وعرض 2.5 قدم، وهذا الوضع ينطبق إلى حد ما على الضريح الثاني باختلاف بسيط، يكمن في أن القبور عن مثيلاتها الأخرى وهو يفضي إلى الفسقية الداخلية، إضافة إلى وجود قبرين آخرين في جهة المدخل الرئيسي، وثلاثة أخرى أيضاً مقابل الحائط الخلفي.
وذكر فيلبي أنه يوجد ما لا يقل عن ثمانين قبراً منتشرة في حوالي عشرين ضريحاً من النوع النبطي في منطقة «مغائر شعيب»، مبيناً أنه يدرك حقيقة دفن الأشخاص العاديين في قبور عادية، وأن الأضرحة كانت مقصورة على الأسرة الحاكمة والنُبلاء والوجهاء من كبار حكم الأنباط، إلاّ أن هذا العدد لا يوحي بكثرة في عدد سكان الأنباط، أو في المقابل طول مُدة حكمهم في «مدين».
وأشار «فليبي» إلى أن هذه القبور كلها قد نبشها اللصوص بحثاً عن الأشياء الثمينة، وكان بعضها مملوءاً عن آخره بالعظام، بينما كان من الواضح أيضاً أن البعض الآخر قد تم تنظيفه لاستخدامه من قبل الإنسان أو للأغنام، وكانت هناك بعض بقايا من الخشب متناثرة في المكان، وربما كانت بقايا التوابيت، والقبر الثاني كان في معظم الأحوال مشابهاً للأول على الرغم من أن كليهما كان له «إفريز» فيه خمس قباب – برج – واثنتان فقط من أنصاف القباب، ويحتوي على ضريح داخلي مثل الآخر، ولكنه في وسط الجدار على الجهة اليمنى، والمدافن مرتبة بالعرض على الجدار الأيسر، خمسة منها بممر طوله أربعة أقدام، يفصلها عن خمسة مدافن طولية على كلا جانبي الممر المؤدي إلى الضريح الداخلي، واثنان على جانب المدخل الرئيس وثلاثة أخرى على الجدار الخلفي، معتقداً أن هذه القبرين يُمكن عدهما بقدر معقول من الثقة ضمن «قبور الملوك». ورجّح فيلبي أن القسم الشمالي من منطقة الآثار قد كان مستوطنة للفقراء وربما الحرفيين والعمال من أنحاء المنطقة، أما القسم الجنوبي الممتد بالتوازي مع واحة مليحة في قاع الوادي فيتمتع بمظهر متميز وفخم، ولا شك أنه كان مركزاً لطبقات المُترفين والحكام، ويُحتمل أن يكون القسم الأوسط هو المقر التجاري والسوق المتمركز على الخزان المائي، إلاّ أن ما يدهش فيلبي في مثل هذه الظروف أن الريح والمطر والشمس على مدى ألفي عام لم تمح تماماً هذه الهندسة المعمارية الجنائزية للأنباط في هذا المكان.
عبدالإله الفارس
مختص بالاثار والتراث